بسم الله الرحمن الرحيم
في رحاب سورة الحجر " طول الامل مذموم "
لفضيلة الدكتور يوسف القرضاوي
د. يوسف القرضاوي
فالأمل مطلوب، ولكن طول الأمل هو المذموم، وهو المقصود بقوله تعالى: {يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ}، الأمل المُلهي هو الأمل الطويل، الذي يجعل صاحبه وكأنه مُخَلَّدٌ في الدنيا، كأنَّه لا يموت، كأنَّ الإنسان خُلق ليخلد، وهو يرى مَنْ حوله يسقطون واحدًا بعد الآخر - الأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء والأحباب - يختطفهم الموت مِنْ حوله، ولكنه ينسى هذا ويقول: في العمر مُتَّسع، وفي الزمن بقية.
ابن العشرين أو ابن الثلاثين يقول: سيصلح حالي وأتوب عند الأربعين. وابن الأربعين أيضًا يقول: عندما أبلغ الستين. وابن الستين يقول: عندما أبلغ الثمانين. وهكذا.
هذا هو طول الأمل، الذي يقول فيه الحسن البصري رحمه الله: ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل (1)، يقول الإمام القرطبي: (وصدق رضي الله عنه! فالأمل يكسل عن العمل، ويورث التراخي والتواني، ويعقب التشاغل والتقاعس، ويخلد إلى الأرض، ويميل إلى الهوى. وهذا أمر قد شوهد بالعيان، فلا يحتاج إلى بيان، ولا يطلب صاحبه ببرهان.
كما أن قصر الأمل يبعث على العمل، ويحيل على المبادرة، ويحثُّ على المسابقة
ويقول: (وطول الأمل داءٌ عضال ومرض مُزْمِن، ومتى تمكَّن من القلب فسد مزاجه، واشتدَّ علاجه، ولم يفارقه داء، ولا نجح فيه دواء، بل أعيا الأطباء، ويئس من بُرئه الحكماء والعلماء.
وحقيقة الأمل: الحرص على الدنيا والانكباب عليها، والحب لها والإعراض عن الآخرة) (2).
وجاء في الحديث: "يهرَم ابن آدم وتشبُّ منه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر"(3).
طول الأمل هذا هو الذي يجعل الإنسان ينسى الموت، ينسى الآخرة، ينسى أنَّ كلَّ حيٍّ سيموت، وكلَّ ميت سيُبعث، وكلَّ مبعوثٍ سيُحاسب، وكلَّ محاسب سيدخل إما جنةً وإما نارًا.
ولو أنَّا إذا مِتْنا تُرِكْنا لكانَ الموتُ راحةَ كلِّ حيٍّ
ولكنَّا إذا متـنا بُعثنا فنسأل بعدها عن كلِّ شيٍّ (4)
نسيان مصاير المكذبين:
{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ}، طول الأمل هو الذي أنساهم مصاير المُكذِّبين والعصاة من قبلهم، الأمم التي كفرت بالله وكذَّبت رسله ماذا أصابهم؟ هم يمرُّون عليهم، يمرون على قُرى لوط، ويمرُّون على حِجْر ثمود، ومدائن صالح، ويَرَوْنَ آثار الظالمين، ومع هذا لا يعتبرون.
تحذير وإنذار ووعيد:
{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، كلمة: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، هذا تحذيرٌ وإنذارٌ ووعيد. سوف يعلمون إذا جاء أجلهم، حينما تحقُّ عليهم كلمة العذاب، سوف يعلمون ماذا ينتظرهم، وماذا يدَّخر الله لهم من عقوبةٍ في الدنيا قبل الآخرة.
{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، وبال صنيعهم إذا عاينوا جزاءه، هذا وعيدُ الله تعالى لهؤلاء.
دعوى القرطبي بنسخ هذه الآية بآية السيف:
ومِنْ أعجب ما قرأتُ حول هذه الآية، ما قاله الإمام القرطبي في تفسيره قال: (هذه الآية منسوخة بالسيف)(5) .
يا عجبًا ما الذي يعارض آية السيف في هذه الآية؟! وهذه الآية تكرَّر معناها: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:91]، {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون:54]، {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} [الزخرف:83، المعارج:42]، {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} [الطور:45]، أيُّ شيء يعارض آية السيف حتى تنسخ آية السيف هذه الآية وما في معناها، ولكن @وَلَعُ هؤلاء المفسِّرين بقصَّة النسخ، والتوسُّع فيها، والمبالغة في دعاوى النَّسخ، جعل إمامًا كبيرًا مثل الإمام القرطبي المفسِّر العظيم يقول هذا: (هذه الآية منسوخة بالسيف). يعني أُلغيت هذه الآية وما عاد لها فائدة، لأنَّ آية السيف نسختها؟! ألغت مفهومها، هذه الآية ملغاة!!
هذا الكلام لا يُقبل، لأنَّ الله أنزل كتابه ليُعمل به، وليُحكم به: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء:105]، {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49].
ولذلك أكَّد المحقِّقون من العلماء أن النسخ لا يكون إلا بأمر محقق.
قال ابن حجر: (النسخ لا يصار إليه بالاحتمال) (6).
وقال ابن حزم: (لا ننكر نسخ الأمر كلِّه بدليل يقوم على ذلك، وإنما ننكر دعوى النسخ بلا دليل)(7) ، وقال في المحلى: (ولا يصح دعوى النسخ إلا بنصٍّ مسند إلى رسول الله صلى الله وسلم)( .
لا يجوز ادِّعاء نسخ الآية إلا بيقين، لأنَّ ربنا أنزلها في كتابه، فتقول: هذه الآية ملغاة وبطل مفعولها. لا بدَّ أن يكون عندك يقين عندما تدَّعي ذلك، وإلا فقد افْتَرَيْتَ على كتابِ الله، وافْتأتَّ على هذا القرآن العظيم، وليس معنا يقين، ولا شبه يقين، ولا ظنّ بأنَّ هذه الآية نُسِخَت، لأنَّ معناها بيِّنٌ، وعيد للكفَّار المُكذِّبين، الذين اغْترُّوا بأنفسهم وأموالهم وبدنياهم، وأعرضوا عن الإيمان، وأعرضوا عن الرسالة، وعيد هؤلاء: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ}، أيُّ شيء نُسخ في هذا؟ هذا أمرٌ باقٍ ومستمرٌّ إلى يوم القيامة.
{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، هذه الآية مُحْكَمَة غير منسوخة، باقية مستمرَّة، والعملُ بها مطلوب إلى يوم القيامة.
الخلاف في الآية الناسخة المُسمَّاة بآية السيف:
والعجيب أنه اختلف في الآية الناسخة التي سمَّوها آية السيف، أيُّ آية هي؟ اختلفوا فيها على أقوال: وأكثر الأقوال وأصحها أنها آية: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:5]، وهذه الآية نزلت في المشركين الذين تعدَّوا الحدود، وطَغَوْا، وآذَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ونَقَضُوا العهود، فنزلت آية البراءة: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ...} [التوبة:1]، ثم أمهلتهم أربعة أشهر، وبعد ذلك إذا انسلخ الأشهر الحُرُم - الأشهر الأربعة - فاقتلوا المشركين، هؤلاء الذين نزلت فيهم الآيات، هذه هي الحقيقة التي جاءت بها الآية.
دعاوى النَّسخ عند بعض المفسِّرين:
ولكن عَيْبُ كثير من المفسِّرين، أنَّ كلَّ آية جاءت في القرآن يُشمُّ منها اللين أو الرفق أو الأمر بالصبر أو الحِلْم أو الدعوة يقولون: نسختها آية السيف:
{فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} [المعارج:5]، { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} [يونس:109]، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127]، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الروم:60]، {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الروم:48]، {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [طه:130]، فهذه الآيات وأمثالها التي أمرت بالصبر عامة، أو الصبر لحكم الله، أو على المشركين، نسختها جميعا آية السيف.
وألحقوا بها الآيات التي تأمر بالإعراض عن المشركين، والتي تأمر بالعفو والصفح، أو تأمر بالدفع بالتي هي أحسن، أو تأمر بجدال الكفار بالتي هي أحسن، وكذلك الآيات التي تأمر بحسن معاملة الكفار، وغيرها من الآيات، نسختها آية السيف. وهذه مبالغة لا نقبلها.
-------------------------
(1) رواه البيهقي في شعب الإيمان باب في الزهد (10785).
(2) تفسير القرطبي (10/2-3) بتصرف.
(3) متفق عليه: رواه البخاري في الرقاق (6421)، ومسلم في الزكاة (1047)، كما رواه أحمد (12142)، والترمذي (2339)، وابن ماجه (4234) كلاهما في الزهد، عن أنس بن مالك.
(4) من شعر ينسب إلى سيدنا: علي بن أبي طالب.
(5) ذكره القرطبي في التفسير (10/2).
(6) فتح الباري لابن حجر (10/243)، طبعة دار المعرفة، بيروت.
(7) الإحكام لابن حزم (3/359)، طبعة دار الحديث، القاهرة، 1404هـ.
( المحلى لابن حزم (7/529)، طبعة دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
في رحاب سورة الحجر " طول الامل مذموم "
لفضيلة الدكتور يوسف القرضاوي
د. يوسف القرضاوي
فالأمل مطلوب، ولكن طول الأمل هو المذموم، وهو المقصود بقوله تعالى: {يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ}، الأمل المُلهي هو الأمل الطويل، الذي يجعل صاحبه وكأنه مُخَلَّدٌ في الدنيا، كأنَّه لا يموت، كأنَّ الإنسان خُلق ليخلد، وهو يرى مَنْ حوله يسقطون واحدًا بعد الآخر - الأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء والأحباب - يختطفهم الموت مِنْ حوله، ولكنه ينسى هذا ويقول: في العمر مُتَّسع، وفي الزمن بقية.
ابن العشرين أو ابن الثلاثين يقول: سيصلح حالي وأتوب عند الأربعين. وابن الأربعين أيضًا يقول: عندما أبلغ الستين. وابن الستين يقول: عندما أبلغ الثمانين. وهكذا.
هذا هو طول الأمل، الذي يقول فيه الحسن البصري رحمه الله: ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل (1)، يقول الإمام القرطبي: (وصدق رضي الله عنه! فالأمل يكسل عن العمل، ويورث التراخي والتواني، ويعقب التشاغل والتقاعس، ويخلد إلى الأرض، ويميل إلى الهوى. وهذا أمر قد شوهد بالعيان، فلا يحتاج إلى بيان، ولا يطلب صاحبه ببرهان.
كما أن قصر الأمل يبعث على العمل، ويحيل على المبادرة، ويحثُّ على المسابقة
ويقول: (وطول الأمل داءٌ عضال ومرض مُزْمِن، ومتى تمكَّن من القلب فسد مزاجه، واشتدَّ علاجه، ولم يفارقه داء، ولا نجح فيه دواء، بل أعيا الأطباء، ويئس من بُرئه الحكماء والعلماء.
وحقيقة الأمل: الحرص على الدنيا والانكباب عليها، والحب لها والإعراض عن الآخرة) (2).
وجاء في الحديث: "يهرَم ابن آدم وتشبُّ منه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر"(3).
طول الأمل هذا هو الذي يجعل الإنسان ينسى الموت، ينسى الآخرة، ينسى أنَّ كلَّ حيٍّ سيموت، وكلَّ ميت سيُبعث، وكلَّ مبعوثٍ سيُحاسب، وكلَّ محاسب سيدخل إما جنةً وإما نارًا.
ولو أنَّا إذا مِتْنا تُرِكْنا لكانَ الموتُ راحةَ كلِّ حيٍّ
ولكنَّا إذا متـنا بُعثنا فنسأل بعدها عن كلِّ شيٍّ (4)
نسيان مصاير المكذبين:
{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ}، طول الأمل هو الذي أنساهم مصاير المُكذِّبين والعصاة من قبلهم، الأمم التي كفرت بالله وكذَّبت رسله ماذا أصابهم؟ هم يمرُّون عليهم، يمرون على قُرى لوط، ويمرُّون على حِجْر ثمود، ومدائن صالح، ويَرَوْنَ آثار الظالمين، ومع هذا لا يعتبرون.
تحذير وإنذار ووعيد:
{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، كلمة: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، هذا تحذيرٌ وإنذارٌ ووعيد. سوف يعلمون إذا جاء أجلهم، حينما تحقُّ عليهم كلمة العذاب، سوف يعلمون ماذا ينتظرهم، وماذا يدَّخر الله لهم من عقوبةٍ في الدنيا قبل الآخرة.
{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، وبال صنيعهم إذا عاينوا جزاءه، هذا وعيدُ الله تعالى لهؤلاء.
دعوى القرطبي بنسخ هذه الآية بآية السيف:
ومِنْ أعجب ما قرأتُ حول هذه الآية، ما قاله الإمام القرطبي في تفسيره قال: (هذه الآية منسوخة بالسيف)(5) .
يا عجبًا ما الذي يعارض آية السيف في هذه الآية؟! وهذه الآية تكرَّر معناها: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:91]، {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون:54]، {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} [الزخرف:83، المعارج:42]، {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} [الطور:45]، أيُّ شيء يعارض آية السيف حتى تنسخ آية السيف هذه الآية وما في معناها، ولكن @وَلَعُ هؤلاء المفسِّرين بقصَّة النسخ، والتوسُّع فيها، والمبالغة في دعاوى النَّسخ، جعل إمامًا كبيرًا مثل الإمام القرطبي المفسِّر العظيم يقول هذا: (هذه الآية منسوخة بالسيف). يعني أُلغيت هذه الآية وما عاد لها فائدة، لأنَّ آية السيف نسختها؟! ألغت مفهومها، هذه الآية ملغاة!!
هذا الكلام لا يُقبل، لأنَّ الله أنزل كتابه ليُعمل به، وليُحكم به: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء:105]، {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49].
ولذلك أكَّد المحقِّقون من العلماء أن النسخ لا يكون إلا بأمر محقق.
قال ابن حجر: (النسخ لا يصار إليه بالاحتمال) (6).
وقال ابن حزم: (لا ننكر نسخ الأمر كلِّه بدليل يقوم على ذلك، وإنما ننكر دعوى النسخ بلا دليل)(7) ، وقال في المحلى: (ولا يصح دعوى النسخ إلا بنصٍّ مسند إلى رسول الله صلى الله وسلم)( .
لا يجوز ادِّعاء نسخ الآية إلا بيقين، لأنَّ ربنا أنزلها في كتابه، فتقول: هذه الآية ملغاة وبطل مفعولها. لا بدَّ أن يكون عندك يقين عندما تدَّعي ذلك، وإلا فقد افْتَرَيْتَ على كتابِ الله، وافْتأتَّ على هذا القرآن العظيم، وليس معنا يقين، ولا شبه يقين، ولا ظنّ بأنَّ هذه الآية نُسِخَت، لأنَّ معناها بيِّنٌ، وعيد للكفَّار المُكذِّبين، الذين اغْترُّوا بأنفسهم وأموالهم وبدنياهم، وأعرضوا عن الإيمان، وأعرضوا عن الرسالة، وعيد هؤلاء: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ}، أيُّ شيء نُسخ في هذا؟ هذا أمرٌ باقٍ ومستمرٌّ إلى يوم القيامة.
{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، هذه الآية مُحْكَمَة غير منسوخة، باقية مستمرَّة، والعملُ بها مطلوب إلى يوم القيامة.
الخلاف في الآية الناسخة المُسمَّاة بآية السيف:
والعجيب أنه اختلف في الآية الناسخة التي سمَّوها آية السيف، أيُّ آية هي؟ اختلفوا فيها على أقوال: وأكثر الأقوال وأصحها أنها آية: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:5]، وهذه الآية نزلت في المشركين الذين تعدَّوا الحدود، وطَغَوْا، وآذَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ونَقَضُوا العهود، فنزلت آية البراءة: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ...} [التوبة:1]، ثم أمهلتهم أربعة أشهر، وبعد ذلك إذا انسلخ الأشهر الحُرُم - الأشهر الأربعة - فاقتلوا المشركين، هؤلاء الذين نزلت فيهم الآيات، هذه هي الحقيقة التي جاءت بها الآية.
دعاوى النَّسخ عند بعض المفسِّرين:
ولكن عَيْبُ كثير من المفسِّرين، أنَّ كلَّ آية جاءت في القرآن يُشمُّ منها اللين أو الرفق أو الأمر بالصبر أو الحِلْم أو الدعوة يقولون: نسختها آية السيف:
{فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} [المعارج:5]، { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} [يونس:109]، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127]، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الروم:60]، {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الروم:48]، {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [طه:130]، فهذه الآيات وأمثالها التي أمرت بالصبر عامة، أو الصبر لحكم الله، أو على المشركين، نسختها جميعا آية السيف.
وألحقوا بها الآيات التي تأمر بالإعراض عن المشركين، والتي تأمر بالعفو والصفح، أو تأمر بالدفع بالتي هي أحسن، أو تأمر بجدال الكفار بالتي هي أحسن، وكذلك الآيات التي تأمر بحسن معاملة الكفار، وغيرها من الآيات، نسختها آية السيف. وهذه مبالغة لا نقبلها.
-------------------------
(1) رواه البيهقي في شعب الإيمان باب في الزهد (10785).
(2) تفسير القرطبي (10/2-3) بتصرف.
(3) متفق عليه: رواه البخاري في الرقاق (6421)، ومسلم في الزكاة (1047)، كما رواه أحمد (12142)، والترمذي (2339)، وابن ماجه (4234) كلاهما في الزهد، عن أنس بن مالك.
(4) من شعر ينسب إلى سيدنا: علي بن أبي طالب.
(5) ذكره القرطبي في التفسير (10/2).
(6) فتح الباري لابن حجر (10/243)، طبعة دار المعرفة، بيروت.
(7) الإحكام لابن حزم (3/359)، طبعة دار الحديث، القاهرة، 1404هـ.
( المحلى لابن حزم (7/529)، طبعة دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
الأربعاء أكتوبر 07 2015, 11:28 من طرف مهاجي30
» الفرض الاول علمي في مادة الأدب العربي
السبت نوفمبر 22 2014, 14:57 من طرف slim2011
» الفرض الاول ادب عربي شعبة ادب و فلسفة
السبت أكتوبر 18 2014, 06:35 من طرف عبد الحفيظ10
» دروس الاعلام الآلي كاملة
الثلاثاء سبتمبر 23 2014, 09:24 من طرف mohamed.ben
» دروس في الهندسة الميكانيكية
الخميس سبتمبر 18 2014, 04:37 من طرف nabil64
» وثائق هامة في مادة الفيزياء
الأربعاء سبتمبر 10 2014, 21:12 من طرف sabah
» طلب مساعدة من سيادتكم الرجاء الدخول
الجمعة سبتمبر 05 2014, 19:57 من طرف amina
» مذكرات الأدب العربي شعبة آداب و فلسفة نهائي
الجمعة سبتمبر 05 2014, 19:53 من طرف amina
» مذكراث السنة الثالثة ثانوي للغة العربية شعبة ادب
الثلاثاء أغسطس 19 2014, 07:29 من طرف walid saad saoud
» les fiches de 3 as* projet I**
الجمعة يوليو 11 2014, 11:51 من طرف belaid11