بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات الكونية في السماوات و الأرض .
بقلم الدكتور يوسف القرضاوي
{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ *وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ* وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ * وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الحجر:16-25].
ذكر الله سبحانه في هذه الآيات الدلائل الكونيَّة على الحقائق التي جاء بها محمد[1]، وهم يَجْحدونها وينكرونها عِنادًا، جاء محمَّدٌ بالتوحيد، وبترك عبادة الأصنام، التي لا تُغْني عنهم شيئًا، لا تبصر ولا تسمع، ولا تضرُّ ولا تنفع، ولا تُعطي ولا تمنع، فجاء بالتوحيد الذي بُعث به الأنبياء جميعًا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وجاء بالبعث بعد الموت، وأنَّ هذه الدنيا ليست هي الدار الوحيدة، إنَّما هي دَارُ مَمَرّ، ولكن هناك دار مَقَرٍّ، هنا الزرع وهناك الحصاد، هنا العمل وهناك الحساب، هذه الدار محدودة نعيش فيها أيامًا ثم نفارقها بالموتُ، وليس الموت نهايةَ المطاف، والموتُ رحلةٌ من دار إلى دار، قال الشاعر:
وما الموتُ إلا رحلة غير أنها
من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي[2]
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إنمَّا خُلقتم للأبد، وإنما تنقلون بالموت من دار إلى دار[3].
جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بهذين الأمرين: التوحيد، والجزاء في دار الخلود، الجنَّة أو النار، وهم يُكذِّبون بهذا وذاك. والقرآن كان دائمًا يقيم دلائل كونيَّة، الآيات التي بثَّها الله في الكون، في الآفاق؛ ليشهدوا عَظَمَةَ الله وقُدرتَه، وهنا ذكر القرآن في هذه السورة عددًا من هذه الآيات الكونيَّة العظيمة، التي تَدُّل على عَظَمَةِ صاحبها، وعلى رَوْعَةِ خدمتها، وعلى إبداع هذا الكون.
{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا}[4]
عالم السماوات:
هذا العالم عالمُ السماوات عالم عظيم لا يعلمه إلا الله، أظهر لنا علم الفلك الحديث شيئًا من سَعَةِ هذا الكون، الأرض التي نحن عليها هي شيء صغير في المجموعة الشمسيَّة، يعنى مساحة الأرض بالنسبة للشمس ضئيلة جدًا، والمجموعة الشمسيَّة بالنسبة للمجرَّة ضئيلةٌ جدًا.
البروج في السماء:
والبروج: هل هي الكواكب؟! أو هي المنازل التي تسير فيها الكواكب والشمس[5]؟ والبروج تدلُّ على عَظَمة هذه السماء، والأصل في البرج هو البناء الكبير العالي كما قال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78].
والبروج فى السماء بناءٌ عظيم، كما قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:48]، وقد سُمِّيت بروجًا، كما قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج:1]، {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان:61].
{وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ}
إبراز عنصر الجمال في الكون:
زيَّن الله السماء وجمَّلها، فحين تنظر إلى السماء وزرقتها الهادئة، وسُحُبها الموزَّعة، ونجومها البديعة، تستمتع بهذا النظر، وهذا يدُّلنا على اهتمام القرآن بإبراز عنصر الجمال فى الكون، وإبراز الجمال فى السماء، وإبراز الجمال فى الأرض، وإبراز الجمال فى الحيوانات، قال تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل:5-6]، الإبل والأبقار والأغنام حين يذهب بها الراعي ويعود بها. انظر إلى هذه اللوحة ما أجملها.
وقال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88]، كلُّ شيء فى هذا الكون مُتْقَن، {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة:7].
ويلفت النظر إلى عنصر الجمال في النبات: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل:60]، أي: ذات جمال وَرَوْعَهٍ.
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6]، أى: لا يوجد فيها شقوق ولا عيوب، {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك:3].
فالقرآن يهتم بعنصر الجمال والزينة: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:8].
ويقول سبحانه عن البحر: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل:14].
عناصر الجمال فى الكون يهتمُّ القرآن بها، الجمال فى الإنسان والحيوان والنبات والسماء والأرض، لهذا اهتمَّ القرآن بعنصر الزينة، كما قال الله تعالى فى سورة الملك: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5].
قال قتادة: قال قتادة خلق هذه النجوم لثلاث: جعلها زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها؛ فمن تأول فيها بغير ذلك أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلَّف ما لا علم له به.
{وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}[6]
حِفْظُ السماء من كلِّ شيطان رجيم:
أي: حَمَيْنا السماء من الشيطان الرجيم، ومنعناه من دخولها، فلا يستطيع الشيطان أن يسمع الملائكة وهي تنزل بوحي الله من السماء: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ}، حَفِظَ الله السماء من كلِّ شيطان مرجوم ملعون مطرود من رحمة الله.
والشيطان مخلوق من النار، وهو ملك الجنُّ، والجنُّ مُكلَّفون كما كُلِّف الإنس: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، منهم الصَّالح والطالح، ومِن هولاء الطالحين، الشياطين الذين سلَّطهم الله على بني آدم، يوسوسون لهم، كما ذكر الله تعالى فى سورة إبراهيم: {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22]، أما عباد الله الصالحون فليس له عليهم أيُّ سلطان، {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]، يُغْويهم بالوسواس.
{وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}، لا يستطيع الشيطانُ أن يسمع الملائكة وهي تنزل بوحي اللهِ من السماء.
{إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ}[7]
استراقُ الشياطين السَّمع قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم:
كان كهان العرب في الجاهلية قبل الإسلام يستطيعون يخبروا ببعض الغيوب، عن طريق الشياطين الذين يسترقون السَّمْعَ، ويسمعون بعضَ الكلام في السماوات، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل أناسٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكُهَّان؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بشيءٍ.
قالوا: يا رسول الله، فإنَّهم يُحدِّثون أحيانًا الشيء يكون حقًا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الكلمة من الجنِّ، يخطفها الجنيُّ، فيقرُّها في أُذن وليِّه قرَّ الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة[8]. فالكَهَنَة هم الكَذَبة، كما أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، أنهم ليسوا بشيء.
نزول الشُّهب الحارقة على مُسْتَرقي السمع بعد بعثة الرسول:
{إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ[9] فَأَتْبَعَهُ}، لحقه بسرعة وقوة {شِهَابٌ مُبِينٌ}[10]، أي: شُعلة من النار، تنزل عليه فتحرقه، وخصوصًا بعد بعثة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى على لسان الجنِّ: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن:8]، أى: إنَّ السماء محروسة ومُحصَّنة: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:8]، فهذا كان الحال بعد بعثة النبي: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ}.
`{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ}
آيات في عالم الأرض:
بعد ذكر الآيات السماويَّة التي تتعلَّق بالعالم العُلوي، ذكر سبحانه آيات تتعلَّق بالعالم السُّفْلىِّ، أي: الأرض التي نعيش عليها، وذكر فيها ثلاث قضايا: الأولى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا}، والثانية: {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ}، والثالثة: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ}.
{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا}
الأرض مبسوطة ومكوَّرة:
أي: بسطناها[11]. وفى بعض الآيات جَعَل الأرض فراشًا، {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة: 22]، وتارةً مهادًا، {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} [النباء: 6]، وتارةً بساطًا، {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح:19]، أي: بساطًا أي: مبسوطةً[12]، صالحةً للعيش فيها، صالحةً للحياة البشريَّة عليها، كما قال تعالى: {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح:20]، كيف هذا وهى مُكوَّرة، ونحن نعلم الآن أنَّ الأرض مكوَّرة، فهو أمرٌ ثابتٌ عند علماء المسلمين وعلماء الكلام.
كما ذكر ابن حزم (ت456هـ)، يثبت كرويَّة الأرض بأدلة فى كتابه (الفِصَل فى الملل والنِّحَل): (قالوا: إن البراهين قد صحَّت بأن الأرض كروية، والعامة تقول غير ذلك.
وجوابنا وبالله تعالى التوفيق: إن أحدًا من أئمة المسلمين المستحقِّين لاسم الإمامة بالعلم رضي الله عنهم لم ينكروا تكوير الأرض، ولا يحفظ لأحد منهم في دفعه كلمة، بل البراهين من القرآن والسنة قد جاءت بتكويرها، قال الله عز وجل: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر:5]، وهذا أوضح بيان في تكوير بعضها على بعض، مأخوذٌ من كور العمامة، وهو إدارتها. وهذا نصٌّ على تكوير الأرض ودوران الشمس كذلك، وهي التي منها يكون ضوء النهار بإشراقها، وظلمة الليل بمغيبها، وهي آية النهار بنصِّ القرآن، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الاسراء:12] ...)[13].
جواب الإمام الرازي عن بسط الارض وكُروّيتها:
قال الإمام الرازي: (فإن قيل: هل يدل قوله: {وَالارْضَ مَدَدْنَـاهَا} على أنها بسيطة؟
قلنا: نعم؛ لأن الأرض بتقدير كونها كرة، فهي كرة في غاية العظمة، والكرة العظيمة يكون كلُّ قطعة صغيرة منها، إذا نُظر إليها فإنها ترى كالسطح المستوي، وإذا كان كذلك زال ما ذكروه من الإشكال، والدليل عليه قوله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ:7]، سمَّاها أوتادًا، مع أنه قد يحصل عليها سطوح عظيمة مستوية، فكذا ههنا)[14].
ومن أدلَّة ذلك: أنها لو لم تكن كرويَّة لكان لها أطراف فى الشرق وفى الغرب والشمال والجنوب، ولكنها مبسوطة ومفروشة ليعيش عليها الناس.
{وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ}[15]
تثبيت الأرض بالجبال:
{وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ}، جبالاً ثوابت رواسخ، أي: ثبَّتناها بالجبال؛ كَيْلا تميدَ بكم[16]، فالجبال كالأوتاد للأرض، كما قال الله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ:7]، وعلماء الجيولوجيا فى عصرنا، مثل الدكتور زغلول النجار وأمثاله، بيَّنوا لنا فائدة الجبال فى الأرض، وترسيخها كى لا تَضْطرب ولا تميد بهم[17].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - فالآيات الكونيَّة المذكورة في الايات [16-22] وما فيها من بدائع الصنع وغرائب القدرة، تغني عن فتح الباب في السماء لصعود المكابرين.
[2] - من شعر أبي العتاهية.
[3] - رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (5/287).
[4] - أصل معنى البروج في اللغة: القصور العالية المتطاولة في السماء. ويقال في اللغة: بَرَج الشيء يبرُجُ بروجًا، أي: ارتفع وظهر. ويقال: تبرجت السماء، أي: ازيَّنت بالكواكب. وأطلقت البروج على منازل الكواكب والنجوم السيَّارة. فمن دلائل قدرة الله سبحانه: أنه أتقن حركة الأرض في مقابل مواقع النجوم في السماء، إتقانًا بديعًا، يتمكَّن به الناس في الأرض من تحديد منازل في السماء تظهر فيها الشمس، ويعرفون بها بدأ السنة الشمسية ونهايتها، وأقسام شهورها وفصولها الأربعة.
[5] - أطلق العرب كلمة (بروج) على مواقع أو منازل في السماء تخيَّلوا أنها منازل للشمس، وجعلوها اثنى عشر موقعًا، بعدد شهور السنة الشمسية، إذ تعود في نهاية السنة الشمسة إلى الموقع الأول الذي رصدوه في أولها. وأطلقوا على المسافة التي تخال الشمس قد اجتازتها في السنة (دائرة البروج). والحقيقة أن ذلك ناتج عن حركة الأرض لا عن سَيْر الشمس على دائرة ذات مواقع سموها البروج وسموا هذه البروج على الترتيب بدءًا من أول فصل الربيع: 1. الحمل. 2- الثور. 3- الجوزاء. 4- السرطان. 5- الأسد. 6- السنبلة. 7- الميزان. 8- العقرب. 9- القوس. 10- الجَدْي. 11- الدلو. 12- الحوت. أطلقوا هذه الأسماء أخذًا من الصورة التي ظهرت لهم عند الرصد من مجتمع النجوم في السماء عند تحديد كل برج من هذه البروج.
[6] - الشيطان: اسم جنس يطلق على كل مُغْو مُضلّ متمرِّد مفسد، من الجن والإنس. وإبليس إمام كل الشياطين ورئيسهم، والذين كانوا يسترقون السمع من الشياطين هم شياطين الجن. والرجيم: الملعون المطرود، والأصل فيه أن المطرود يرجم بالحجارة، أي: يرى بها.
[7] - استرق السمع: استمع مستخفيًا، مأخوذٌ من السرقة، وهي أخذ الشيء خفية.
[8] - متفق عليه: رواه البخاري في الأدب (6213)، ومسلم في السلام (2228)، عن عائشة.
[9] - أي: اتَّخذ ما يستطيع من وسيلة ليسرق الأقوال بسمعه. وكانت الشياطين يسترقون بمسامعهم ما تتحادث به الملائكة في السماء، وما يلقى إليهم من أوامر وأنباء، فمنعوا من ذلك.
[10] - {شِهَابٌ مُبِينٌ} ظاهر واضح لكلِّ مبصر. والشهاب هو الشعلة الساطعة من النار، ويطلق على النجم المضيء اللامع. ويطلق على جرم سماوي في الفضاء فغذا دخل في جو الأرض انجذب إليها فاشتعل وصار بعد ذلك رمادرًا.
[11] - أي: جعلنا ذات امتداد في بعدين متقابلين منها. ويقال لغة: تمدد الرجل، أي: تمطَّى وتطاول. واصل المد في اللغة: الجذب. ومن معاني المد أيضًا: مدّ الأرض بالخيرات والمعادن والعناصر النافعة للعباد. تقول لغة: (مددت الأرض مدًا) إذا زدتَ فيها ترابًا أو سمادًا من غيرها، ليكون أعمرَ لها، واكثر ريعًا لزرعها. ويقال للسَّماد والرِّمال: مداد الأرض. وفهم المد على معنييه المشهورين هو من التدُّبر الأمثل.
[12] - أي: غير محدَّبة ولا مقعرة ولا مائعة رجراجة، مع ما فيها من التكوّر والمنعطفات والتعرجات، ومجامع المياه، لتتيسّر عليها حياة البشر.
[13] - انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (2/97)، طبعة دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانيى 1395هـ 1975م.
[14]- التفسير الكبير للفخر الرازي (19/170)، طبعة المطبعة البهية المصرية، الطبعة الأولى 1357هـ 1938م.
[15] - كلمة (رواسي) هي في الأصل صفة لموصوف محذوف هي الجبال، ولكثرة استعمالها صفةً للجبال استغني عن ذكر الموصوف، ونزلت الصفة منزلته في أصل الدلالة، مع زيادة معنى الرسوخ والثبوت.
[16] - أي: حتى لا تضطرب ولا تتحرك بسبب الضغط الغازي الذي في داخلها.
[17]- انظر: موسوعة الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم للدكتور زغلول النجار صـ222 – 230، طبعة دار المعرفة، بيروت.
الآيات الكونية في السماوات و الأرض .
بقلم الدكتور يوسف القرضاوي
{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ *وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ* وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ * وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الحجر:16-25].
ذكر الله سبحانه في هذه الآيات الدلائل الكونيَّة على الحقائق التي جاء بها محمد[1]، وهم يَجْحدونها وينكرونها عِنادًا، جاء محمَّدٌ بالتوحيد، وبترك عبادة الأصنام، التي لا تُغْني عنهم شيئًا، لا تبصر ولا تسمع، ولا تضرُّ ولا تنفع، ولا تُعطي ولا تمنع، فجاء بالتوحيد الذي بُعث به الأنبياء جميعًا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وجاء بالبعث بعد الموت، وأنَّ هذه الدنيا ليست هي الدار الوحيدة، إنَّما هي دَارُ مَمَرّ، ولكن هناك دار مَقَرٍّ، هنا الزرع وهناك الحصاد، هنا العمل وهناك الحساب، هذه الدار محدودة نعيش فيها أيامًا ثم نفارقها بالموتُ، وليس الموت نهايةَ المطاف، والموتُ رحلةٌ من دار إلى دار، قال الشاعر:
وما الموتُ إلا رحلة غير أنها
من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي[2]
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إنمَّا خُلقتم للأبد، وإنما تنقلون بالموت من دار إلى دار[3].
جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بهذين الأمرين: التوحيد، والجزاء في دار الخلود، الجنَّة أو النار، وهم يُكذِّبون بهذا وذاك. والقرآن كان دائمًا يقيم دلائل كونيَّة، الآيات التي بثَّها الله في الكون، في الآفاق؛ ليشهدوا عَظَمَةَ الله وقُدرتَه، وهنا ذكر القرآن في هذه السورة عددًا من هذه الآيات الكونيَّة العظيمة، التي تَدُّل على عَظَمَةِ صاحبها، وعلى رَوْعَةِ خدمتها، وعلى إبداع هذا الكون.
{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا}[4]
عالم السماوات:
هذا العالم عالمُ السماوات عالم عظيم لا يعلمه إلا الله، أظهر لنا علم الفلك الحديث شيئًا من سَعَةِ هذا الكون، الأرض التي نحن عليها هي شيء صغير في المجموعة الشمسيَّة، يعنى مساحة الأرض بالنسبة للشمس ضئيلة جدًا، والمجموعة الشمسيَّة بالنسبة للمجرَّة ضئيلةٌ جدًا.
البروج في السماء:
والبروج: هل هي الكواكب؟! أو هي المنازل التي تسير فيها الكواكب والشمس[5]؟ والبروج تدلُّ على عَظَمة هذه السماء، والأصل في البرج هو البناء الكبير العالي كما قال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78].
والبروج فى السماء بناءٌ عظيم، كما قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:48]، وقد سُمِّيت بروجًا، كما قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج:1]، {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان:61].
{وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ}
إبراز عنصر الجمال في الكون:
زيَّن الله السماء وجمَّلها، فحين تنظر إلى السماء وزرقتها الهادئة، وسُحُبها الموزَّعة، ونجومها البديعة، تستمتع بهذا النظر، وهذا يدُّلنا على اهتمام القرآن بإبراز عنصر الجمال فى الكون، وإبراز الجمال فى السماء، وإبراز الجمال فى الأرض، وإبراز الجمال فى الحيوانات، قال تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل:5-6]، الإبل والأبقار والأغنام حين يذهب بها الراعي ويعود بها. انظر إلى هذه اللوحة ما أجملها.
وقال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88]، كلُّ شيء فى هذا الكون مُتْقَن، {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة:7].
ويلفت النظر إلى عنصر الجمال في النبات: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل:60]، أي: ذات جمال وَرَوْعَهٍ.
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6]، أى: لا يوجد فيها شقوق ولا عيوب، {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك:3].
فالقرآن يهتم بعنصر الجمال والزينة: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:8].
ويقول سبحانه عن البحر: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل:14].
عناصر الجمال فى الكون يهتمُّ القرآن بها، الجمال فى الإنسان والحيوان والنبات والسماء والأرض، لهذا اهتمَّ القرآن بعنصر الزينة، كما قال الله تعالى فى سورة الملك: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5].
قال قتادة: قال قتادة خلق هذه النجوم لثلاث: جعلها زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها؛ فمن تأول فيها بغير ذلك أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلَّف ما لا علم له به.
{وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}[6]
حِفْظُ السماء من كلِّ شيطان رجيم:
أي: حَمَيْنا السماء من الشيطان الرجيم، ومنعناه من دخولها، فلا يستطيع الشيطان أن يسمع الملائكة وهي تنزل بوحي الله من السماء: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ}، حَفِظَ الله السماء من كلِّ شيطان مرجوم ملعون مطرود من رحمة الله.
والشيطان مخلوق من النار، وهو ملك الجنُّ، والجنُّ مُكلَّفون كما كُلِّف الإنس: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، منهم الصَّالح والطالح، ومِن هولاء الطالحين، الشياطين الذين سلَّطهم الله على بني آدم، يوسوسون لهم، كما ذكر الله تعالى فى سورة إبراهيم: {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22]، أما عباد الله الصالحون فليس له عليهم أيُّ سلطان، {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]، يُغْويهم بالوسواس.
{وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}، لا يستطيع الشيطانُ أن يسمع الملائكة وهي تنزل بوحي اللهِ من السماء.
{إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ}[7]
استراقُ الشياطين السَّمع قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم:
كان كهان العرب في الجاهلية قبل الإسلام يستطيعون يخبروا ببعض الغيوب، عن طريق الشياطين الذين يسترقون السَّمْعَ، ويسمعون بعضَ الكلام في السماوات، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل أناسٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكُهَّان؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بشيءٍ.
قالوا: يا رسول الله، فإنَّهم يُحدِّثون أحيانًا الشيء يكون حقًا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الكلمة من الجنِّ، يخطفها الجنيُّ، فيقرُّها في أُذن وليِّه قرَّ الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة[8]. فالكَهَنَة هم الكَذَبة، كما أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، أنهم ليسوا بشيء.
نزول الشُّهب الحارقة على مُسْتَرقي السمع بعد بعثة الرسول:
{إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ[9] فَأَتْبَعَهُ}، لحقه بسرعة وقوة {شِهَابٌ مُبِينٌ}[10]، أي: شُعلة من النار، تنزل عليه فتحرقه، وخصوصًا بعد بعثة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى على لسان الجنِّ: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن:8]، أى: إنَّ السماء محروسة ومُحصَّنة: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:8]، فهذا كان الحال بعد بعثة النبي: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ}.
`{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ}
آيات في عالم الأرض:
بعد ذكر الآيات السماويَّة التي تتعلَّق بالعالم العُلوي، ذكر سبحانه آيات تتعلَّق بالعالم السُّفْلىِّ، أي: الأرض التي نعيش عليها، وذكر فيها ثلاث قضايا: الأولى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا}، والثانية: {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ}، والثالثة: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ}.
{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا}
الأرض مبسوطة ومكوَّرة:
أي: بسطناها[11]. وفى بعض الآيات جَعَل الأرض فراشًا، {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة: 22]، وتارةً مهادًا، {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} [النباء: 6]، وتارةً بساطًا، {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح:19]، أي: بساطًا أي: مبسوطةً[12]، صالحةً للعيش فيها، صالحةً للحياة البشريَّة عليها، كما قال تعالى: {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح:20]، كيف هذا وهى مُكوَّرة، ونحن نعلم الآن أنَّ الأرض مكوَّرة، فهو أمرٌ ثابتٌ عند علماء المسلمين وعلماء الكلام.
كما ذكر ابن حزم (ت456هـ)، يثبت كرويَّة الأرض بأدلة فى كتابه (الفِصَل فى الملل والنِّحَل): (قالوا: إن البراهين قد صحَّت بأن الأرض كروية، والعامة تقول غير ذلك.
وجوابنا وبالله تعالى التوفيق: إن أحدًا من أئمة المسلمين المستحقِّين لاسم الإمامة بالعلم رضي الله عنهم لم ينكروا تكوير الأرض، ولا يحفظ لأحد منهم في دفعه كلمة، بل البراهين من القرآن والسنة قد جاءت بتكويرها، قال الله عز وجل: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر:5]، وهذا أوضح بيان في تكوير بعضها على بعض، مأخوذٌ من كور العمامة، وهو إدارتها. وهذا نصٌّ على تكوير الأرض ودوران الشمس كذلك، وهي التي منها يكون ضوء النهار بإشراقها، وظلمة الليل بمغيبها، وهي آية النهار بنصِّ القرآن، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الاسراء:12] ...)[13].
جواب الإمام الرازي عن بسط الارض وكُروّيتها:
قال الإمام الرازي: (فإن قيل: هل يدل قوله: {وَالارْضَ مَدَدْنَـاهَا} على أنها بسيطة؟
قلنا: نعم؛ لأن الأرض بتقدير كونها كرة، فهي كرة في غاية العظمة، والكرة العظيمة يكون كلُّ قطعة صغيرة منها، إذا نُظر إليها فإنها ترى كالسطح المستوي، وإذا كان كذلك زال ما ذكروه من الإشكال، والدليل عليه قوله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ:7]، سمَّاها أوتادًا، مع أنه قد يحصل عليها سطوح عظيمة مستوية، فكذا ههنا)[14].
ومن أدلَّة ذلك: أنها لو لم تكن كرويَّة لكان لها أطراف فى الشرق وفى الغرب والشمال والجنوب، ولكنها مبسوطة ومفروشة ليعيش عليها الناس.
{وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ}[15]
تثبيت الأرض بالجبال:
{وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ}، جبالاً ثوابت رواسخ، أي: ثبَّتناها بالجبال؛ كَيْلا تميدَ بكم[16]، فالجبال كالأوتاد للأرض، كما قال الله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ:7]، وعلماء الجيولوجيا فى عصرنا، مثل الدكتور زغلول النجار وأمثاله، بيَّنوا لنا فائدة الجبال فى الأرض، وترسيخها كى لا تَضْطرب ولا تميد بهم[17].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - فالآيات الكونيَّة المذكورة في الايات [16-22] وما فيها من بدائع الصنع وغرائب القدرة، تغني عن فتح الباب في السماء لصعود المكابرين.
[2] - من شعر أبي العتاهية.
[3] - رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (5/287).
[4] - أصل معنى البروج في اللغة: القصور العالية المتطاولة في السماء. ويقال في اللغة: بَرَج الشيء يبرُجُ بروجًا، أي: ارتفع وظهر. ويقال: تبرجت السماء، أي: ازيَّنت بالكواكب. وأطلقت البروج على منازل الكواكب والنجوم السيَّارة. فمن دلائل قدرة الله سبحانه: أنه أتقن حركة الأرض في مقابل مواقع النجوم في السماء، إتقانًا بديعًا، يتمكَّن به الناس في الأرض من تحديد منازل في السماء تظهر فيها الشمس، ويعرفون بها بدأ السنة الشمسية ونهايتها، وأقسام شهورها وفصولها الأربعة.
[5] - أطلق العرب كلمة (بروج) على مواقع أو منازل في السماء تخيَّلوا أنها منازل للشمس، وجعلوها اثنى عشر موقعًا، بعدد شهور السنة الشمسية، إذ تعود في نهاية السنة الشمسة إلى الموقع الأول الذي رصدوه في أولها. وأطلقوا على المسافة التي تخال الشمس قد اجتازتها في السنة (دائرة البروج). والحقيقة أن ذلك ناتج عن حركة الأرض لا عن سَيْر الشمس على دائرة ذات مواقع سموها البروج وسموا هذه البروج على الترتيب بدءًا من أول فصل الربيع: 1. الحمل. 2- الثور. 3- الجوزاء. 4- السرطان. 5- الأسد. 6- السنبلة. 7- الميزان. 8- العقرب. 9- القوس. 10- الجَدْي. 11- الدلو. 12- الحوت. أطلقوا هذه الأسماء أخذًا من الصورة التي ظهرت لهم عند الرصد من مجتمع النجوم في السماء عند تحديد كل برج من هذه البروج.
[6] - الشيطان: اسم جنس يطلق على كل مُغْو مُضلّ متمرِّد مفسد، من الجن والإنس. وإبليس إمام كل الشياطين ورئيسهم، والذين كانوا يسترقون السمع من الشياطين هم شياطين الجن. والرجيم: الملعون المطرود، والأصل فيه أن المطرود يرجم بالحجارة، أي: يرى بها.
[7] - استرق السمع: استمع مستخفيًا، مأخوذٌ من السرقة، وهي أخذ الشيء خفية.
[8] - متفق عليه: رواه البخاري في الأدب (6213)، ومسلم في السلام (2228)، عن عائشة.
[9] - أي: اتَّخذ ما يستطيع من وسيلة ليسرق الأقوال بسمعه. وكانت الشياطين يسترقون بمسامعهم ما تتحادث به الملائكة في السماء، وما يلقى إليهم من أوامر وأنباء، فمنعوا من ذلك.
[10] - {شِهَابٌ مُبِينٌ} ظاهر واضح لكلِّ مبصر. والشهاب هو الشعلة الساطعة من النار، ويطلق على النجم المضيء اللامع. ويطلق على جرم سماوي في الفضاء فغذا دخل في جو الأرض انجذب إليها فاشتعل وصار بعد ذلك رمادرًا.
[11] - أي: جعلنا ذات امتداد في بعدين متقابلين منها. ويقال لغة: تمدد الرجل، أي: تمطَّى وتطاول. واصل المد في اللغة: الجذب. ومن معاني المد أيضًا: مدّ الأرض بالخيرات والمعادن والعناصر النافعة للعباد. تقول لغة: (مددت الأرض مدًا) إذا زدتَ فيها ترابًا أو سمادًا من غيرها، ليكون أعمرَ لها، واكثر ريعًا لزرعها. ويقال للسَّماد والرِّمال: مداد الأرض. وفهم المد على معنييه المشهورين هو من التدُّبر الأمثل.
[12] - أي: غير محدَّبة ولا مقعرة ولا مائعة رجراجة، مع ما فيها من التكوّر والمنعطفات والتعرجات، ومجامع المياه، لتتيسّر عليها حياة البشر.
[13] - انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (2/97)، طبعة دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانيى 1395هـ 1975م.
[14]- التفسير الكبير للفخر الرازي (19/170)، طبعة المطبعة البهية المصرية، الطبعة الأولى 1357هـ 1938م.
[15] - كلمة (رواسي) هي في الأصل صفة لموصوف محذوف هي الجبال، ولكثرة استعمالها صفةً للجبال استغني عن ذكر الموصوف، ونزلت الصفة منزلته في أصل الدلالة، مع زيادة معنى الرسوخ والثبوت.
[16] - أي: حتى لا تضطرب ولا تتحرك بسبب الضغط الغازي الذي في داخلها.
[17]- انظر: موسوعة الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم للدكتور زغلول النجار صـ222 – 230، طبعة دار المعرفة، بيروت.
الأربعاء أكتوبر 07 2015, 11:28 من طرف مهاجي30
» الفرض الاول علمي في مادة الأدب العربي
السبت نوفمبر 22 2014, 14:57 من طرف slim2011
» الفرض الاول ادب عربي شعبة ادب و فلسفة
السبت أكتوبر 18 2014, 06:35 من طرف عبد الحفيظ10
» دروس الاعلام الآلي كاملة
الثلاثاء سبتمبر 23 2014, 09:24 من طرف mohamed.ben
» دروس في الهندسة الميكانيكية
الخميس سبتمبر 18 2014, 04:37 من طرف nabil64
» وثائق هامة في مادة الفيزياء
الأربعاء سبتمبر 10 2014, 21:12 من طرف sabah
» طلب مساعدة من سيادتكم الرجاء الدخول
الجمعة سبتمبر 05 2014, 19:57 من طرف amina
» مذكرات الأدب العربي شعبة آداب و فلسفة نهائي
الجمعة سبتمبر 05 2014, 19:53 من طرف amina
» مذكراث السنة الثالثة ثانوي للغة العربية شعبة ادب
الثلاثاء أغسطس 19 2014, 07:29 من طرف walid saad saoud
» les fiches de 3 as* projet I**
الجمعة يوليو 11 2014, 11:51 من طرف belaid11